اسمه:
هو أبو المظفر محي الدين محمد، أحد مسلمي المغول العظام، حكم شبه القارة الهندية بالعدل والإنصاف قبل أن يزيح المحتلون الإنجليز هذه الأسرة من السلطة وسدة الحكم.
ألقابه وصفاته:
هو الأسد الجسور، والليث الهصور، والإمام الهمام، وأحد عمالقة الإسلام، الذي أذل الكفر وزلزل الطغیان، وقوَّض عروش أهل الإلحاد في ربوع مملكته، وأقطار الأوطان، وحارب الفساد وأهله في كل مكان، وأتی على بنیان الظلم والظلمة من القواعد حتى خرَّ عليهم السقف من فوقهم، وأذاق المغرورين والمعاندين من كئوس المرار ما انشقَّتْ له حلوقهم، وأرغم الجبابرة على الانقياد لله والرسول، ودقَّ حصون الزنادقة على رؤوسهم بالعرض والطول، وجعل المهانة والصغار على كل من أبى قبول الحق بعد أن أُقیمت عليه من الله الحجة، وسلك بالمسلمين في أيامه سبيل الاستقامة وطريق المحجة، فكان كالبدر المشرق في سمائه، والفيض المغدق بسلسبيل رُوَائه، والناصح الأمين للخاص والعام، والمجدد لهذا الدين أمره في سابق الأزمان وغابر الأيام، حتى لقَّبه الأديب الأريب رائد السمهوري الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله- بـ"بقية الخلفاء الراشدين"([1]).
وكيف لا؟ وهو العابد الساهر إذا أسبل الليل رداء ظلامه على الأنام، والراكع الساجد في غسق الدجى والحارسون له نيام، والبطل الكرار إذا طارت قلوب الشجعان في ساحة الوَغَى، والفارس المغوار الذي تُجمُّ دونه الأُسُود، إذا علمت أنه حلَّ بساحتهم، وأتى هذا الرجل الذي أقام العدل في زمانه حتى عبقت بذكره الأرجاء، وانقادت له الممالك وخضعت حتى صار النصر له رفيقا وكأنَّه رياح الله تجري بأمره رخاء حيث يشاء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
سلطان الإمبراطورية المغولية "أَوْرَنْكْ زِیْبْ عَالَمْ كِیْرْ" سلطان مملكة شبه القارة الهندية وما حواليها في القرن العاشر وأوائل القرن الحادي عشر الهجري.
أَوْرَنْكْ زِیْبْ: معناها بالفارسية "زينة الملك"، و عَالَمْكِیْرْ: معناها بالفارسية "جامع
زمام الدنيا أو العالم".
مولده ونسبه:
ولد السلطان أورنكْ زيْب عالمكير في بلدة "دوحد" في كجرات بالهند في ليلة الأحد ١٥ من ذي القعدة ١٠٢٨هـ، الموافق ٢٤ من أكتوبر ١٦١٩م، من بطن أرجمند بانو بنت آصف جاه أبي الحسن بن غياث الدين الطهراني في أيام جده جهانكير بن أكبر شاه، فاستخرج لولادته بعض العلماء تاريخا من "آفتاب عالمتاب" وفق حساب الجمل.
أورنك زيب عالمكير سلطان مغولي في الهند، كان أورنك زيب عالم كير آخر أباطرة المغول في الهند، ومن أعظمهم على الإطلاق، كان الابن الثالث لشاه جهان.
فأبوه هو "السلطان شاه جهان" أحد أعظم سلاطین دولة المغول المسلمين في الهند، وهو باني مقبرة "تاج محل" الشهيرة التي تعد الآن من عجائب الدنيا السبع الحديثة، تم بنائها في ٢٠ عاما، وعمل على إنشائها أكثر من ٢١٠٠٠ شخص في إنشاء مقبرة لزوجته المحبوبة.
نشأته:
نشأ في بيت عز وترف وشرف بأيام جده وأبيه، وقرأ العلم على مولانا عبد اللطيف السلطانفوري، ومولانا محمد هاشم الكيلاني، والشيخ محي الدين بن عبد الله البهاري، وعلى غيرهم من الأساتذة. وأخذ خط النسخ عن الحاج القاسم، والنستعليق عن السيد علي بن محمد مقيم الماهرين في الخط حتى كتب خط المنسوب وصار مضرب المثل في جودة الخط. وأخذ منهم الفقه الحنفي وبرع فيه، ونشأ -رحمه الله- محبًا للشعر فكان شاعرا. وتعلّم اللغة العربية والفارسية والتركية، وبرز في كثير من العلوم والفنون، هكذا جمع -رحمه الله- كل صفات الملوك العظماء في سن صغيرة.
بيعته:
بايع على يدي الشيخ محمد معصوم بن الشيخ الإمام المجدد أحمد السرهندي، وأخذ الطريقة عن الشيخ سيف الدين بن محمد معصوم المذكور، وكان يلازمه بأمر والده حتى حصلت له نفحة منه وبشره بأشياء، واشتهر ذكره في حياة والده وعظم قدره وشرفه([2]).
شجاعته:
ظهر من "أورنك زيب عالمكير" منذ صغره علامات الجد والإقبال على الدين، والبعد عن الترف والملذات، وكان فارسًا شجاعًا لا يشق له غبار، ویروی في ذلك قصةٌ: كان مع إخوته في يومٍ بحضور أبيه "السلطان شاه جهان" في احتفال، وكان في الاحتفال فقرة لحلبة أفيال، فشرد فيل من الحلبة وجری نحو "أورنك زيب عالمكير" وهو آنذاك ابن أربع عشرة سنة، فضرب الفيل الفرس الذي كان مركبا لأورنك زیب بخرطومه، وطرح أورنك زيب أرضا وأقبل نحوه، فثبت أورنك زيب في مكانه، واستل سيفه وسط ذهول الناس وإكبارهم بهذا الأمير الصغير، وظل يدافع عن نفسه أمام الفيل الضخم حتى جاء الحرس، وطردوا الفيل الضخم. وهذه مفخرة عظيمة في الثبات والعزيمة لا تجدها لغيره من أبناء الملوك في تلك السن.
توليه الملك والحكم في البلاد:
تولى زمام السلطنة المغولية بالهند سنة ١٠٦٨هـ بعد معارك نازفة بينه وبين المفسدين من إخوته وأقاربه، وكانوا يريدون الدنيا وزينتها، ويأبی أورنك زیب عالمكير إلا إقامة العدل، ونشر التوحيد، وخدمة الإسلام والمسلمين.
ولما جلس على عرش المملكة الهندية، بدأ يسير على منهاج النبوة في إقامة شعائر الدين، وإنصاف المستضعفين، ورفع رأية الجهاد على سائر المرتدين والمعاندين مع القيام على حوائج الأرامل والثكالى والفقراء من المؤمنين، كل هذا مع الزهد والعبادة، ونشر العلم والعلوم بين سواد الناس، والقضاء على كثيرمن البدع والخرافات التي كانت ذائعة في مملكته العريضة، فأبطل الاحتفال بالأعياد الوثنية، مثل: عيد النيروز وغيره، كما منع عادة تقبيل الأرض بين يديه والانحناء له، ومنع الخطب الطويلة التي تقال لتحية السلطان واكتفی بتحية الإسلام، كما منع دخول الخمر إلى بلاده، وصرف أهل الموسيقي والغناء عن بلاده.
قد يتخيل البعض بمجرد جلوس أورنك زيب على كرسي السلطنة ركن إلى العبادة والراحة وخصوصًا أنه كان متدينًا، لا والله، ليس هكذا فهم أجدادنا التدين وإنما التدين يكون بإعلاء كلمة الله وإقامة العدل والمساواة بين الناس على اختلاف عقائدهم وأديانهم، ولا يُظلَم أحدٌ سواء كان مسلما أو هندوسيا أو غيرهما. وكان ملوك المسلمين في شبه القارة الهندية متسمين بصفات العدل، وكانوا ينيطون كثيرا من المناصب الإدارية في الدولة إلى الهندوس كما هو مذكور ومسطور في مؤلفات التاريخ المنصفة.
فحكم البلاد بالحزم والعدل، لم يرکن أورنك زيب إلى الدعة والراحة بل لبس لامة الحرب من أول يوم، وظل في جهاد طوال ٥٢ سنة، حتى خضعت له شبه القارة الهندية كلها من مرتفعات الهمالية (الجبل الأعلى على وجه الأرض) إلى المحيط الهندي، ومن بنجلاديش -حاليًا- إلى حدود إيران.
شهدت إمبراطورية المغولية الإسلامية في الهند في عهد أورنك زيب عالمكير (١٦٥٨-١٧٠٧م) أقصی امتداد لها، وذلك بفضل الجهود العسكرية التي بذلها السلطان أورنك زيب عالمكير حيث لم يبق إقليم من أقاليم الهند إلا خضع تحت سيطرة السلطان، فاستطاع أورنك زيْب عالمكير تحويل شبه القارة الهندية إلى ولاية مغولية إسلامية واسعة، ربط شرقها بغربها وشمالها بجنوبها تحت قيادة واحدة، خاض المسلمون في عهده أكثر من ٣٠ معركة، قاد هو بنفسه منها ١١ معركة، وأسند الباقى لقواده.
أبطل أورنك زيب ٨٠ نوعا من الضرائب، وأصلح الطرق وبنى الحدائق، حتى أصبحت "دلهي" في عهده حاضرة الدنيا، وعيَّن القضاة وجعل له في كل ولاية نائبا عنه، وأعلن في الناس أنه من كان له حق على السلطان، فليرفعه إلى النائب الذي يرفعه إليه.
زهده وورعه:
وقد كان أورنك زيب عالمكير مع كونه ملكا عظيما فقد كان عالما حنفيا جليلا ذا قدم راسخة في أصول مذهب الأحناف، لا يتجاوز عنه في قول ولا فعل، وكان يعمل بالعزيمة، وكان يصلي الصلوات المفروضة في أوائل أوقاتها بالجماعة مهما أمكن، ويقيم النوافل والسنن كلها، ويصلي صلاة الجمعة في الجامع الكبير، ولو كان غائبا عن البلدة لأمر من الأمور يأتيها يوم الخميس؛ ليصلي صلاة الجمعة.
كان يصوم في رمضان في شدة الحر، ويحيي الليالي بالتراويح، ويعتكف في العشرة الأخيرة من رمضان في المسجد، وكان يصوم يوم الاثنين والخميس والجمعة في كل أسبوع، وأيام البيض في كل شهر.
وكان يخرج الزكاة من أمواله قبل أن يجلس على سرير الملك، وبعده مما خص لنفسه من عدة قری بعض معادن الملح للمصارف الخاصة من نقير وقطمير.
وكان يريد أن يرحل إلى الحرمين الشريفين للحج والزيارة في أيام والده فلم يرض بفراقه، وبعد ذلك لم تمهله المصالح الملكية، ولكنه كان يرسل الناس إلى الحرمين الشريفين للحج والزيارة، ويبذل عليهم العطايا الجزيلة، ويبعث إليهما أموالا طائلة لأهل الحوائج في أيام الحج بعد سنة أو سنتين.
ويوظف الذاكرين والذاكرات، ويجعل لهم الأرزاق السنية، ويداوم على الطهارة بالوضوء، ويحافظ على الأذكار والأدعية المأثورة عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في غالب أوقاته، ويحيي الليالي المتبركة بالصلاة والصدقة وصحبة العلماء والمشایخ في المسجد، وكان يحترز عن كل سوء ومكروه منذ نعومة أظفاره.
لم يشرب الخمر قط، ولم يقارب امرأة لا تحل له، وكان لا يستمع بالمزامير منذ جلس على سرير الملك مع أنه كان ماهرا بالإيقاع والنغم، وما كان يلبس الملبوسات غير المشروعة، وما كان يأكل في الظروف الذهبية والفضية، وأمر أن تصاغ الجواهر الثمينة في الحجر اليشب مقام الذهب، ونهى الأمراء أن يلبسوا غير المشروع، وكان يمنعهم أن يتذاكروا بين يديه بكذب وغيبة وقول الزور، وأمرهم أن يعبروا عن الأمور المستنكرة إن وقع لهم الحاجة إلى ذلك بكناية واستعارة.
حياته العملية:
وكان موزعا لأوقاته: فوقت للعبادة، ووقت للمذاكرة، ووقت لمصالح العساكر، ووقت للشكاة، ووقت لقراءة الكتب والأخبار الواردة عليه كل يوم وليلة من مملكته، لا يخلط شيئا بشيء، فإنه كان ينهض في الليل قبيل الصبح الصادق فيتوضأ ويذهب إلى المسجد ويصلی الفجر بجماعة، ثم يشتغل بتلاوة القرآن والأوراد والأذكار.
ثم ينظر إلى أمور المملكة، ثم يدخل المنزل ويتغدی ويقيل نحو ساعة، ثم يتوضأ ويمشي إلى المسجد ويصلى الظهر بحماعة، ثم يذهب إلى "خلوت خانه" (محل الخلوة) ويشتغل بتلاوة القرآن وكتابة المصحف ومطالعة الكتب وتحقيق المسائل، وربما يدعو بها بعض الأمراء ويباشر المهمات من أمور الدولة وربما يدعو أهل المظالم والشكاوي فيقضي بينهم بالمعروف، وربما يدعو المخدرات (المحجبات من النساء) فيعرضن عليه حوائج النساء فیبذل عليهن العطايا الجزيلة، ثم يذهب إلى المسجد ويصلي العصر بجماعة، ثم يجلس في "دولت خانه" (مسكنه) مرة ثانية فيتمثل بين يديه الأمراء ويكلمونه في المهمات كأول النهار.
ثم يخرج إلى المسجد ويصلي المغرب بجماعة ويشتغل بالأذكار والأشغال، ثم يذهب إلى "دولت خانه" (مسكنه) ويشتغل بالمهمات إلى وقت العشاء ثم يذهب إلى المسجد ويصلى العشاء ثم يدخل المنزل.
وأما يوم الأربعاء فكان لا يجلس بالديوان العام والخاص ويجلس بدار العدل على سنة أسلافه، فيحضر لديه المفتون والقضاة ويعرض عليه ناظر العدلية المتظلمين واحدا بعد واحد، فيستنطقه السلطان بنفسه ويسأله بكل هوادة ورفق، ويقضي بينهم بالمعروف.
أما يوم الخميس فإنه كان يكتفي بالجلوس بالديوان العام والخاص على أول النهار ويترك الجلوس بعد العصر فكان يشتغل سائر أوقاته بالعبادة.
وكان يجلس للمذاكرة في الكتب الدينية كـ"الإحياء" و"الكيمياء" كلاهما للإمام الغزالي، و"الفتاوى الهندية" وغيرها في كل أسبوع ثلاثة أيام على السيد محمد الحسيني القنوجي، والعلامة محمد شفيع اليزدي، والعلامة نظام الدين البرهانفوري وغيرهم من العلماء.
من مآثره الجميلة:
حفظ القرآن الكريم بعد جلوسه على سرير الملك فأرخ بعض العلماء لبدء حفظه من قوله تعالى: ﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى﴾ [الأعلى: ٦]، ولتمامه من قوله: ﴿ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ [البروج: ٢٢].
ومنها: أنه كانت له معرفة بالحديث النبوي الشريف، له كتاب الأربعين "الأربعين"،
جمع فيه أربعين حديثًا من قول النبي ﷺ قبل أن يتولى المملكة، وله کتاب آخر جمع فيه أربعين حديثًا بعد الولاية، وترجمهما بالفارسية وعلق عليهما الفوائد النفيسة.
ومنها: أنه كانت له مهارة تامة بالفقه ويضرب به المثل في استحضار المسائل الجزئية، وقد صنف العلماء بأمره "الفتاوى الهندية" في ستة مجلدات کبار، فاشتهرت في الأقطار الحجازية والمصرية والشامية والرومية، وعم النفع بها، وصارت مرجعا للمفتين، وأنفق على جمعها مائة ألف من النقود.
ومنها: أنه كان بارعا في الخط يكتب النسخ والنستعليق وشكسته بغاية الجودة والحلاوة، كتب مصحفا بيده قبل جلوسه على المملكة، وبعثه إلى مكة المباركة، وبعد جلوسه مصحفا آخر، وأنفق على التثقيف والتجليد سبعة آلاف روبية ثم بعثها إلى المدينة المنورة، وكان انتسخ "الألفية" لابن مالك -رحمه الله- في صباه، فأرسل إلى مكة بيد الحاج عبد الرحمن المفتي؛ لينتفع به الناس من البلدة المباركة.
ومنها: أنه كان ماهرا بالإيقاع والنغم، ولكنه كان يحترز من استماع الغناء تورعا، قال مكرم خان الصفوي: سألته يوما عن الغناء، فقال: لأهله مباح، فقلت له: إني لا أعلم أحدا يتأهل له غيركم، فقال: إن الغناء بالمزامير لا سیما بـ"البكهاوج" (الطبول آلة الموسيقي) حرام بالاتفاق، فإذن لا أرغب إلى الغناء بغيرها.
ومنها: أنه كان ماهرا بالإنشاء والترسل لم يكن له نظير في زمانه في ذلك، وقد جمع شيئا كثيرا منها أبو الفتح قابل خان التتوي في "آداب عالمكيري"، وعناية الله خان في "الكلمات الطيبات والرقائم الكرائم"، وبعضهم في "دستور العمل"، وأما الشعر فإنه كان مقتدرا عليه ولكنه كان لا يعتني به ويمنع الناس أن يضيّعوا أوقاتهم في الشعر لقوله تعالى: ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ﴾ [الشعراء: ٢٢٤، ٢٢٥].
ولله در الشافعي -رحمه الله-:
ولولا الشعر بالعلماء يزري لكنت اليوم أشعر من لبيد
ومن شعر الملك أورنك زيب بالفارسية قوله:
غم عالم فراواں است ومن یک غنچہ دل دارم چسان در شیشہ ساعت کنم ریک بیابان را؟
الشاعر يعبر عن أحزانه وآلامه، فيقول: (آلام الدنيا كثيرة، وليس عندی إلا قلب صغیر لا يسع هموم العالم وأحزانه، كما لا تسع ساعة رملية رمال الصحراء).
ومنها: أنه كان ماهرا بالرمي والطعن والضرب والفروسية وغيرها من الفنون الحربية والتصيد، كان شجاعا مقداما باسلا، لا يظهر له في الهيجاء فزع، ولا جزع، ولا طيش، ولا خفة، ولا وجل، ولا خطل، بل من رآه ظن أنه جاء من بعض المتنزهات وهو قد خرج من معركة، تطير لها العقول، وتشيب لها الولدان، وترجف منها الأفئدة، وتخرس الألسن، وقد مضت قصته في شجاعته.
ومن مأثره: أنه كان سخيا جوادا کريما، يبذل على الفقراء وأهل الحاجة العطايا الجميلة، ويسامحهم في الغرامات، ومن ذلك أنه أبطل ثمانين نوعا من المكوس في سنة ۱۰۷۹ہـ وكانت تحصل له من تلك الأبواب ثلاثون لکَّا (ثلاثة ملايين) في كل سنة.
ومن ذلك: أنه نهی المستوفين أن يطالبوا الأبناء بغرامات الآباء، ويصادروا أموالهم في القضاء، وأمرهم أن يميزوا في ذلك فيما بين أهل المناصب، فمن كان له منصب "دوبيستي" (منصب لدى الحكومة) أو فوق ذلك إلى أربع مائة فتعفى لهم المطالبة كلها، ومن کان له منصب فوق تلك المناصب إلى سبعة آلاف فيؤخذ عنهم بقدر الوسع والحالة، فإن ورثوا من آبائهم مالا قدر المطالبة أوفوقها فيؤخذ عنهم بالتقسيط في سنين عديدة، وإن ورثوا مالا أقل من المطالبة، فيؤخذ عنهم بقدر المیراث تدریجا، وإن علم أنه لم يرثوا شيئا، فتعفى المطالبة ولا يؤخذ عنهم شيء.
ومن ذلك: أنه بذل أموالا طائلة على إصلاح الشوارع والطرق في نواحي الهند من "أورنك آباد" إلى "أكبر آباد"، ومن "لاهور" إلى "کابل"، وكذلك من "لاهور" إلى "كشمير"، وحفر الآبار وأجرى العيون وأسس الجسور ورباطات وحمامات ومساجد ومدارس وخانقات واصطبلات لأبناء السبيل في تلك المسالك؛ ليستريح الناس بها فظلوا آمنين مطمئنين.
ومن ذلك: أنه بذل الأموال الطائلة في بناء المساجد، وبني مساجد كثيرة في أرض الهند وعمر القديمة منها، وجعل الأرزاق للأئمة والمؤذنين والرواتب للمساجد من بسط وسرج وغير ذلك.
ومن ذلك: أنه أسس دور العجزة (بلغوخانات) في أكثر البلاد فوق ما كانت في العصور الماضية و"البيمارستانات" (المستشفيات) في أكثر بلاده.
ومن ذلك: أنه كان يرسل العطايا الجميلة إلى أهل الحرمين الشريفين -زادهما الله شرفا- بعد سنة أوسنتين.
ومن ذلك: أنه وظف خلقا كثيرا من العلماء والمشايخ؛ ليشتغلوا بالعلم والعبادة منقطعين فارغي القلوب عن كل هم، ولم يفرق فيها بين أهل الإسلام وكفار الهند، توجد "مناشيره" عند أحبار الهنادك في "بنارس" وفي غير تلك البلدة حتى اليوم، كما في "مرآة العالم"([3]).
ومن مأثره: أنه كان مقتصدا في الخيرات غير مسرف في المال، فإنه كان لا يعطي الشعراء شيئا ولا لأهل الإيقاع والنغم خلافا لأسلافه فإنهم كانوا يجيزون رجلا منهم بما لا يسعه أن يحمل تلك العطية ويبذّرون في المال تبذيرا كثيرا، وكان عالمكير إذا وظف العلماء وأقطعهم أرضا أو اليومية، يشترطها بالدرس والإفادة؛ لكي لا يجعلوها ذريعة لأخذ المال فقط، ومتى يبعث الأموال إلى الحرمين الشريفين -زادهما الله شرفا- يشترطها بأن تعطى لأهل الحاجة غير الأغنياء؛ ولذلك كان الناس ينسبونه إلى البخل، وحاشاه عن ذلك!
ومن مآثره: أنه كان مجبولا على العدل والإحسان وفصل القضاء على وفق الشريعة المطهرة؛ ولذلك أمر العلماء أن يدوّنوا المسائل والأقضية من كل باب من أبواب الفقه، فدوّنوها وصنفوا "الفتاوى العالمكيرية" المعروفة بـ"الفتاوی الهندية" في ستة مجلدات كبار، ثم إنه أمر القضاة أن يقضوا بها.
وكان أسلافه يجلسون يوم الأربعاء من كل أسبوع بدار العدل ويقضون بما يُفتيهم العلماءُ، فإنه اقتدى بهم في ذلك، ولكنه لشدة ميله إلى هذا الأمر كان يبالغ فيه، وكان يظهر كل يوم بدار العدل بعد الإشراق فيعرض عليه ناظر العدلية الأقضية فيحكم بما ألقى الله سبحانه في روعه.
وهوأول من وضع الوكالة الشرعية في دور القضاء فولى رجالا من أهل الدين والأمانة في دور القضاء بكل بلدة ونيابة ليكونوا وكلاء عنه فيما يستغاث عليه الحقوق الشرعية والديوان الواجبة عليه، وأجاز للناس أن يستغيثوا عليه عند القاضي، وهو أول من نصب المحتسبين في بلاده وامتاز في الملوك التيموريين في ذلك.
وقد جمع سيرته كثير من المؤرخين في كتبهم، منهم: بختاوَر خان العالمكيري، فإنه أورد شيئا كثيرا من أخباره في كتابه المشهور "مرآة العالم"، ومحمد كاظم بن محمد أمين الشيرازي في "عالمكير نامه"، وهو مقتصر على عشر سنين من ولايته، وألف مستعد خان كتابه "مآثر عالمكيري" في مآثره الجميلة، وعاقل خان الرازي وخافي خان في "منتخب اللباب"، والطباطبائي في "سير المتأخرين"، وغيره في "مناقب عالمكيري"، وأطال الكلام في مناقبه، ونسخة منه موجودة في "المكتبة الحامدية" بـ"رامفور"، والشيخ محمد بقاء السهارنفوري صنف كتابا حافلا في سيرته وسماه "تاريخ عالمكيري" صرح به المؤلف في كتابه "مرآة جهان نما"([4]).
ثناء العلماء عليه:
(١) قال المحبي في "خلاصة الأثر": " وَلما أَرَادَ الله تَعَالَى بِالْهِنْدِ خيرا واحسانا وَقدر ظُهُور الْعدْل فيهم كرما وامتنانا، أظهر في خافقها شموس السلطنة بِلَا ريب، وأنار فى سَمَاء سلطنتها أنوار بدور الْملك السُّلْطَان أَورنك زيب، وطوى بِسَاط إخوته ونتف حللهم، ومزق، وَحرق بِنَار المظلومين لباسهم، وخرق وَقتل أَخَاهُ دَارَاشِكُوْهْ، واقتلعه هُوَ وَأَصْحَابه وَكَانَ دَاراشكوه ذَا ذوق وفطنة بهية وصفات مستحسنة إلا أَنه فى آخر عمره صَارَت سيرته مذمومة وأحدث مظالم كَثِيرَة وَقتل أَخَاهُ الثانى مُرَاد بخش وفر مُحَمَّد شُجَاع أخوه الثَّالِث وَلم يُعرف أَيْن ذهب. وأورنك زيب مِمَّن يُوصف بِالْملكِ الْعَادِل الزَّاهِد وَبلغ من الزّهْد مبلغا عظيما لدرجة أنه كان -مع سعَة سُلْطَانه- يَأْكُل فى شهر رَمَضَان رغيفا من خبز الشّعير من كسب يَمِينه، وَيصلي بِالنَّاسِ التَّرَاوِيحَ. وَله نِعَم بارة، وخيرات دارة جدا، وَأمر من حِين ولى السلطنة بِرَفْع المكوس والمظالم عَن الْمُسلمين، وَأقَام فِيهَا دولة الْعلم، وَبَالغ فى تَعْظِيم أَهله، وعظمت شوكته، وَفتح الفتوحات الْعَظِيمَة، وَهُوَ مَعَ كَثْرَة أعدائه وقوتهم غير مبال بهم مشتغل بالعبادات، وَلَيْسَ لَهُ في عصره من الْمُلُوك نَظِير في حسن السِّيرَة وَالْخَوْف من الله تَعَالَى وَالْقِيَام بنصرة الدّين"([5]) انتهى.
(٢) وقال المرادي في "سلك الدرر": "السلطان المشهور سلطان الهند في عصرنا وأمير المؤمنين وإمامهم، وركن المسلمين ونظامهم، المجاهد في سبيل الله، العالم العلامة الصوفي العارف بالله الملك القائم بنصرة الدين، أيد الإسلام وأعلى في الهند مناره وجعل كلمة الله هي العليا، وقام بنصرة الدين، وفتح الفتوحات العظيمة، وصرف أوقاته للقيام بمصالح الدين وخدمة رب العالمين من الصيام والقيام والرياضة التي لا يتيسر بعضها لآحاد الناس فضلاً عنه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والحاصل: إنه كان حسنة من حسنات الزمان، ليس له نظير في نظام سلطنته ولا مداني، وطلع من الأفق الهندي فجره وظهره من البرج التيموري بدره، وفلك مجده دائر، ونجم سعده سائر، وأسر غالب ملوك الهند المشهورين، وصارت بلادهم تحت طاعته، وجبيت إليه الأموال، وأطاعته البلاد والعباد، وقوته لا يمكن التعبير عنها بعبارة تؤديها حقها، والملك لله وحده، وأقام في الهند دولة العلم، وبالغ في تعظيم أهله حتى قصده الناس من كل البلاد، والحاصل أنه ليس له نظير"([6]).
(٣) وقال عنه العلامة الأديب الشيخ علي الطنطاوي في كتابه "رجال من التاريخ": "ترون أن في الهند المسلمة التي تجهلون تاريخها -كما كنت أجهله قبل أن أرحل إليها- ملوكا في ثياب فقهاء وعلماء ومحدثين، رجالا جمعوا الدنيا والدين، والعلم والعمل، ونحن لا نكاد نجد في تاريخ بلادنا بعد عمر بن عبد العزيز -الذي كان العلماء أمامه تلامذة- إلا قليلا ممن جمع العلم والسلطان الذي سخره للعمل بهذا العلم، وكان أسلافه كلهم على هذا الطريق ولكنه فاق أسلافه. ووفّق إلى أمرَينِ لم يسبقه إليهما أحد من ملوك المسلمين.
الأول: أنه لم يكن يعطى عالما عطية أو راتبا إلا طالبه بعمل بتأليف أو بتدريس؛ لئلا يأخذ المال ويتكاسل، فيكون قد جمع بين السيئتين: (١) أخذ المال بلا حق، (٢) وكتمان العلم.
الثاني: أنه أول من عمل على تدوين الأحكام الشرعية في كتاب واحد يُتخذ قانونا فوضعت له وبأمره وبإشرافه وتحت ناظره کتاب "الفتاوى الهندية" (العالمكيرية) على المذهب الحنفي.
وبلغ من زهده وورعه: أنه كان يكتب بخطه المصاحف ويبيعها ويعيش بثمنها، لما زهد في أموال المسلمين وترك الأخذ منها، وقد حرص شديدا على بناء المساجد، ودور العبادة، وكذا بناء الأسوار والحصون العريقة المنيعة في مملكته"([7]).
(٤) وقال عنه شيخه العلامة أحمد المعروف بـ"مُلَّا جِيْوَنْ" في مقدمة "التفسيرات الأحمدية": "وكل ذلك بميامن دولة سلطان المؤمنين، مالك زمام العالمين، ناصر الشريعة القويمة، سالك الطريقة المستقيمة، باسط مهاد العدل والإنصاف، هادم أساس الجور والاعتساف، مروج الشريعة الغراء، مؤسس الملة الحنيفة البيضاء، صاحب المفاخر والمآثر، جامع المراتب والمناقب، بحر الدرر أبي الظفر مربي ذي الفضل الصغير الكبير محيي الدين محمد أورنك زيب عالمكير، لا زال ملجأ للأفاضل والأنام، ملاذا لهم من حوادث الأيام، وما برح حصنًا حصينًا للإسلام، بالنبي وآله عليه وعليهم السلام، وليس هذا المدح منا طمعا للدنيا وطلبا للأثمان والثمين، بل حسبة لله وحرصا لازدياد الدين، إذا لم أكن من أهل الشأن، ولا من فرسان هذا المیدان، ولكن حسبي منه ما أشاهد من إعلاء الدين، ويكفيني ما أرى منه في كل حين"([8]).
وفاته:
توفي بولاية "دکن" بلاد في جنوب الهند، كانت عاصمتها "حیدر آباد" ودفن في "أورنك آباد" ببقعة تسمى بـ"خلد آباد" في شهر ذي القعدة الحرام ١١١٨هـ، وأقام في الملك خمسين سنة.
وقد ذكر بعضهم: أنه لما حين حضرته الوفاة أوصى بأن يدفن في أقرب مقابر للمسلمين، وألا يعدو ثمن کفنه خمس روبيات بكسب يمينه فحسب.
معين الدين القادري الثقافي
كلية اللغة العربية (البلاغة والنقد)، جامعة الأزهر الشريف، القاهرة.
([1]) "رجال من التاريخ": للأديب الأريب رائد السمهوري الشیخ علي الطنطاوي (المتوفى: ١٣٢٠هـ)، ناشر: دار المنار، جدة، الطبعة الثامنة: ١٤١١هـ-١٩٩٠م.
([2]) "نزهة الخواطر": للشيخ عبد الحي بن فخر الدين الهندي، (المتوفى: ١٣٤١هـ)، ناشر: دار ابن حزم بیروت، لبنان، الطبعة الأولى: ١٤٢٠هـ-١٩٩٩م، (٦/٧٤٣).
([3]) "مرآة العالم": لبَخْتَاوَرْ خان العالمكيري. انظر التفصيل في "نزهة الخواطر"، (٦/٧٤١).
([4]) "نزهة الخواطر"، (٦/٧٤٢).
([5]) "خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر": لمحمد أمين بن فضل الله بن محب الدين بن محمد المحبي الحموي الأصل، الدمشقي (المتوفى: ١١١١هـ)، ناشر: دار صادر، بيروت، (٤/٣١٦، ٣١٧).
([6]) "سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر": لأبي الفضل محمد خليل بن علي المرادي (المتوفى: ١٢٠٦هـ)، ناشر: دار بشائر الإسلامية، ودار ابن حزم، الطبعة الثالثة: 1408هـ-1988م ، (٤/١١٣، ١١٤).
([7]) "رجال من التاريخ": للطنطاوي.
([8]) "التفسيرات الأحمدية" للشيخ العلامة أحمد المعروف بـ"مُلَّا جِيْوَنْ" الأميتهوي الهندي (المتوفى: ١١٣٠هـ)، ناشر: مكتبة الشركة خاريطوف، قزان، سنة الطبع: ١٣٢٣هـ-١٩٠٤م.